السبت، 28 يونيو 2008

رسائل عبر الأمواج: حوت البحر ولا دود الفقر



كتب :محمد الطيبي

الجزائر- "نقول لكم إننا حاولنا الهروب من البلد.. ولكن للأسف الشديد فالبحر هاج علينا بقوة، تبقون على خير.. أنا السيد درقواني لخضر.. أبي الحبيب، أمي الحبيبة.. تهلاي في روحك (حافظي على صحتك) وأبي كذلك وإخواني وأخواتي.. آه.. اللي ما يديرش الرأي.. والله ما راه رابح (من لا يقدر العواقب والله لن ينجح).. إلى اللقاء يا أمي وأبي.. أنتما أغلى ما في الدنيا.. وشكرا.. أنا آسف".
هذه الكلمات التي كتبت بخط منهك على قصاصة لغلاف علبة سجائر وأوصلتها قارورة ماء بلاستيكية محكمة الإقفال إلى أحد شواطئ الجزائر، كانت الصرخة الأخيرة لكاتبها الشاب "درقواني" قبل أن يدفن بحرًا بلا قبر، إثر تبخر حلمه بالوصول لـ"جنة" أوروبا.
"درقواني" الذي كان يحلم بوظيفة في إسبانيا ليعيش بكرامة ويمكنه الزواج، ليس سوى رقم بقائمة طويلة من آلاف الشباب يقدمون على مغامرة الهجرة غير الشرعية لأوروبا عبر قوارب صغيرة متهالكة.
هؤلاء يطلق عليهم بالجزائر "الحراقة"؛ لأنهم قبل ركوب البحر يتخلصون من أي وثيقة تثبت هويتهم، وكأنهم يحرقون كل "مراكب الرجعة".
رسالة "درقواني" التي كتبها نهاية عام 2006 هي حتى الآن الأكثر زلزلة لقلوب الجزائريين من رسائل أخرى بعدها قذفت بها الأمواج، وتختصر معاناة جيل يفضل أن "يأكله حوت البحار ولا يأكله دود البطالة والفقر" في بلده، حسبما عبرت أغنية الراب الجزائرية الشهيرة: "أركب الزورق.. وليحدث ما يحدث.. يأكلني الحوت ولا يأكلني الدود.. لم يعد لي مقام في بلدي..الهجرة لإسبانيا".
"أمي الحبيبة"
أحدث تلك الرسائل وصلت الجزائر قادمة من اتجاه إيطاليا، لكن هذه المرة تحمل الرسالة بعضا من تفاصيل الرحلة التي لم تكتمل.
يقول علي -صاحبها- مودعا أمه التي تأكد أنه لن يراها مجددا: "أمي الحبيبة. أكتب لك وسط العاصفة، لقد صعدت مع خمسة من الجزائريين على متن سفينة صيد، كان الاتفاق أن نسبح عندما نصل المجال البحري الإيطالي، وإن نجونا فسندخل إيطاليا، لكن العاصفة داهمتنا منذ ساعة، أعرف أننا لن نصل إيطاليا ولن نعود للجزائر، سامحيني يا أمي.. أردت أن أهرب من الجحيم.. أنت تعلمين بما كنت أعانيه.. سامحيني.. ابنك الذي يحبك.. علي".
أما الرسالة الثالثة التي التقطها رجال الدرك غربي الجزائر، فمن شاب أرسل وداعه الأخير لأمه، ولحبيبته "حياة"، ولم ينس، والموت يتراقص بقاربه، أن يتمنى الحياة للجزائر.
وتقول سطورها: "هاج علينا البحر، ولسنا ندري أين نحن؟ أخبروا الوالدين.. والذي لا يتبع نصائح الوالدين هذه هي نهايته، فإذا متنا نلتقي عند الله، وإذا بقينا أحياء سنلتقي.. الحرقة صعبة.. تحيا الجزائر.. بلغوا سلامي لحياة".
أحسد الغرقى!
البواخر الأوروبية الراسية بمواني الجزائر أضحت تثير "شهية" شبابه الطامح لحياة أفضل بإحدى دول أوروبا.
محمود (25 عاما) وجدناه شارد الذهن يتأمل البواخر الراسية بميناء الجزائر العاصمة، ويقول لـ"إسلام أون لاين.نت": "أقف هنا تقريبا كل يوم، أنظر للبواخر التي تأتي محملة.. أعلم أن تلك السلع هي لكبار الشخصيات الجزائرية.. لا أحسدهم، فقط أريد الهدة (الهجرة) وأترك لهم البلد، أصبحت لا أطيق هذه الحياة".
ويستنكر محمود وعود المسئولين: "يقولون سنعطي المشعل للشباب.. في الواقع الشيوخ هم من يحكمون ويتحكمون بالخيرات، أما نحن فلم يتركوا لنا سوى الحرقة.. والله إنني أحسد الشباب الذي مات بعرض البحر، لقد ارتاحوا من الشقاء".
رياض (22 عاما) أيضا يقول: "أحضر إلى الميناء لوضع خطة لركوب إحدى البواخر المتجهة لفرنسا خلسة".
ويمضي قائلا: "لا أريد الحرقة في الزوارق الصغيرة؛ لأنني أسمع يوميا أخبار غرق أصحابها، أو مانخبيش عليك أيضا أنني لا أملك المال اللازم".
الحرق بعد الغرق

الجثث تتعرض للحرق بعد انتشالهامعاناة ضحايا الهجرة غير الشرعية تمتد حتى لما بعد الموت غرقا؛ إذ تمنح القوانين الإسبانية السلطات المحلية الحق في حرق جثامين المهاجرين الغرقى مجهولي الهوية بعد مرور 40 يوما من انتشالها.
ويشير السيد مقدم بن أحمد الناشط بجمعية "جاريت" الحقوقية في مدينة فالنسيا جنوب إسبانيا إلى أن "عملية حرق جثث المهاجرين معتم عليها إعلاميا من قبل مختلف وسائل الإعلام الإسبانية، ونفس الأمر ينطبق على المسيرات المناهضة لهذه الممارسات".
وتمكنت الجمعيات الحقوقية، بعد فضحها هذه الممارسات، من انتزاع "حق دفن الغرقى" في مقابر إسلامية حسب الشريعة الإسلامية. كما تطالب تلك الجمعيات بدمج الناجين في وظائف تكفل لهم العيش بكرامة.
ووفقا لعائلات بعض الضحايا التقاهم مراسلنا بمدينة عنابة الجزائرية، فإن تكاليف نقل جثة واحدة من إسبانيا إلى الجزائر تقارب 3000 يورو.
وهو مبلغ تعجز أغلب تلك العائلات الفقيرة عن توفيره حتى لو استدانت، خاصة في غياب شبه كامل لأي دعم رسمي في هذا الشأن.
لكن السيد مقدم بن أحمد يقول إن جمعيته "تعمل بكل طاقتها لتوفير هذا المبلغ كتضامن مع تلك العائلات التي عادة ما تكون فقيرة، وإلا ما اضطر أبناؤها لتلك المغامرة".
إحصاءات مؤلمة
برغم تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية في الجزائر وتزايد معدلاتها من عام لآخر، فإن التصريحات الرسمية ووسائل الإعلام الحكومية تحاول طمس هذه الحقيقة من خلال تبرئة البطالة والفقر من المسئولية؛ لأن ذلك يعتبر مؤشرا على فشل سياسات الحكومات المتعاقبة في حل معضلة البطالة، التي وصلت مؤشراتها إلى 29.9 بالمائة حسب تقرير لمنظمة العمل العربية.
ويحمل سليمان رحال أستاذ علم الاجتماع هذا الوضع الاجتماعي المتردي مسئولية تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية، ويقول: تدني مستوى عيش الفرد، وارتفاع مستوى البطالة والفقر، دفعا الشباب إلى الوقوع في فخ اليأس، وأوجدا الرغبة في التغيير نحو الأفضل مهما كانت الطرق والعواقب.
ويقول رحال: "من الطبيعي جدا أن يحلم أي شاب جزائري بالاستقرار في إحدى دول الشمال، لا سيما بعد الانفتاح الإعلامي الذي شهدته البلاد بفضل انتشار الهوائيات، مما سمح للشباب باكتشاف حياة أخرى على الضفة الشمالية للمتوسط".
وتشير إحصاءات قدمتها قوات البحرية الجزائرية إلى أن عدد الجثث التي يتم انتشالها في ارتفاع مستمر من عام لآخر، حيث تم انتشال 29 جثة عام 2005 و73 جثة في 2006، أما في عام 2007 فقد تم انتشال 87 جثة، منها 35 لم يتم التعرف عليها. ويضاف إلى هؤلاء، مئات المفقودين مجهولي المصير بعد مغادرتهم الشواطئ الجزائرية في جنح الظلام.